-->

الصديق بنظرة أخرى



عندما نتذكر أو نسمع سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نرسم صورة ذهنية لكل شخصية ، نتخيل "الصديق أبا بكر" في صورة الرجل الصالح المهيب الوقور الهادئ الرشيد ، بلحيته البيضاء و جسده النحيف الشديد و نظرته العميقة الهادئة ..
و لكننا - بعيدا عن قصص المؤرخين والصورة المشهورة له في وجداننا ، نستطيع أن نفهم أن هذا الرجل لم يكن صحابيا عظيما و خليفة راشدا فقط ، بل كان - بصدق - قائدا استراتيجيا متمكنا و رجل سياسة بارعا ، و هنا سوف نتناول مشهدا عجيبا ، حفظ الله به هذا الدين و تلك الأمة ..
فبعد وفاة نبينا الكريم صلى الله عليه و سلم ارتدت كل قبائل العرب تقريبا ما عدا مثلث "مكة _ الطائف _ المدينة" ، و كانت أسباب الردة ترجع إلى عدم فهمهم للدين ، بالإضافة إلى العصبية القبلية و حقدهم علي قريش و ظنهم أن الزكاة كانت هدية أو إتاوة تدفع للنبي صلى الله عليه و سلم دون غيره ، و من ثم فبوفاته لم يعد يحق لعشيرته و قومه "قريش" أن يكون لهم الزعامة بعد ذلك ..
كان الموقف رهيبا جدا و اختبارا صعبا للقائد الجديد للأمة ، و تخيل أنت عزيزي القاريء أن شبه الجزيرة العربية قد ارتدت عن بكرة أبيها ، ما عدا ثلاث قرى..
اجتمع قادة الدولة الجديدة في اجتماع مصيري و هم "عمر _ سعد _ علي _ خالد _ بن مسعود _ طلحة _ الزبير" ، و كان رأي سيدنا "عمر" السياسي أن يقوم الخليفة و يتألف القبائل حتى يعودوا إلى دينهم و إيمانهم و لا يحاربهم لخطورة الوضع الذي هو أشبه بحالة عصيان عام ، و طلب "الصديق" رأي "سعد" و "أبي عبيدة" و "خالد بن الوليد" العسكري ، و أشاروا عليه بعدم المغامرة بإنفاذ بعث "أسامة" - و هو الجيش الوحيد - لخارج المدينة ، بينما الأعداء علي الأبواب..
استحسن البقية رأي "عمر" السياسي ، كما استحسنوا رأي كل من "خالد و سعد و أبي عبيدة" العسكري ، و لكن الخليفة الجديد رفض الرأيين جملة و تفصيلا ..
أصر "الصديق" على إنفاذ بعث "أسامة" للروم ..
و هنا تفصيل "فلم يكن الأمر طاعة عمياء وفقط كما يظن البعض" ، بل رأى "الصديق" أنه بهذا الفعل سوف يحيد قبائل العرب التي تقع في طريق الجيش ، و سوف يرسل رسالة خفية لباقي المرتدين مفادها ان عصيانهم من الهوان و الصغر مما جعله لا يؤخر أو يربك خطط الدولة المستقبلية و تطلعاتها السياسية..
و بالفعل وصلت الرسالة ببلاغة تامة إلى المرتدين ، فرجعت نصف الجزيرة بهذا الحراك إلى موقف الحياد ، متطلعين إلى من تكون الغلبة حتي يقرروا مصيرهم ..
في تلك الأثناء جاء إلى المدينة زعماء و وفود قبائل "غطفان" و "بني اسد" و "طيء" ، فلم يشعر ناحيتهم "الصديق" بالإرتياح ، و قد رأى بعضهم و هو يتجول في المدينة كأنه يعاين دفاعاتها و تحصيناتها ، فلما غادروا أمر "عبد الله بن مسعود" بالتأهب للدفاع عن المدينة ، ثم كلف "الصديق" "الزبير" و "طلحة" تحت قيادة "علي" باختيار مجموعة من أفضل فرسان المسلمين لعمل كمين و حاميات في الممرات الجبلية حول المدينة ، و بالفعل صدق حدس العبقري "الصديق" و هجمت "غطفان" و "طيء" و "بني أسد" بعدها بثلاث ايام قبائل العرب التي كانت قد حشدت قواتها لاقتحام المدينة ، و نجح الكمين ببراعة في صد الهجوم ، و كبدوا المعتدين خسائر فادحة و طاردوهم حتي "ذي القصة" ، و عادوا بعتاد و غنائم كبيرة و أسرى كثر ..
إن الخطة التي نفذها "الصديق" هي الآن تعرف بالخطة "التشتيتية" في علم الإستراتيجيات العسكرية ، و هي تقسيم الأعداء إلى جبهات لسهولة ضربهم في حالة عدم القدرة على مواجهتهم مرة واحدة ، و بفضل تلك الواقعة التي سماها الصحابة "فتح أبي بكر الأول" التزمت قبائل العرب الهدوء و علموا أن للدولة الجديدة قوة و بأس ، و وقف الجميع على الحياد ، ما عدا القبائل التي ادعي زعمائها النبوة ، و انتظرت الدولة عودة جيش "أسامة" ليقوم "الصديق" بتكليف سيف الله "خالد" بتأديبهم ..
عندما أراد "الصديق" أن يقوم بمشروعه الجهادي الكبير في فارس كقائد خبير ، فقام بمعرفة بلادهم و نقاط القوة و الضعف عن طريق القيام بعمليات استكشافية محدودة..
بعد أن سمع "الصديق" بقائدنا "المثنى" أمر باستدعائه و الوقوف على خبرته و درايته بتلك الأنحاء ، فجعله نائبا عاما لأمير الجيوش "سيف الله" ، و اعتمدت خطة "الصديق" على ضرب القوات العربية الموالية للفرس ثم ضرب قوات الفرس المتمركزة في الشطر العربي أولا لتحرير تلك المناطق العربية من الفرس ، و بالفعل استطاعت الجيوش الإسلامية أن يحققوا انتصارات عدة في افتتاحية هذا المشروع الجهادي الكبير ، فسحقوا الفرس في "ذات السلاسل" ، و كانت افتتاحية رائعة و كسر للجيش الفارسي في العراق تحت قيادة "هرمز" حاكمهم على العراق ثم "الولجة" و "الأنبار" و "أليس" ، و يصبح الشطر العربي خالصا للمسلمين..
ينجح "الصديق" في تحرير الشام العربي من الرومان ، و يوصي قادة الجيوش بعدم التهور و الثبات و عدم الرضوخ لاستفزاز "هرقل" لعدم الدخول في حرب حاسمة إلا بعد تضعضع جبهات الروم الخارجية و تحييد العرب النصارى ، و كان إنفاذ بعث "أسامة" بمثابة عملية استكشاف رائعة ، تشبة عمليات القوات الخاصة خلف خطوط العدو ، لرسم صورة واضحة لنقاط قوته و ضعفه و من ثن وضع الإستراتيجية المناسبة لتوغل القوات و انتشارها و خطوط تعبئتها و مواصلتها وإمدادها ..
و ينجح الجيش الإسلامي في معاركه الإفتتاحية و الإستنزافية حتي يصل إلى اليرموك الحاسمة ..
و يثبت الصديق للمسلمين و كبار الصحابة أنه تولى الخلافة ، ليس لأنه الأفضل دينا و سبقا و خيرا و خدمة لنبينا الكريم و حسب ، بل لأنه رجل دولة حقيقي..
TAG

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق


الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *